حكم المرتد مولف: عالم الفکر
Posted on : 2010/8/17 Əxlaq kitabxanası
حكم المرتد
الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو قتل المرتد عن الإسلام ـ رجلاً أو امرأة ـ مما قد يقال معه: أنه لا يتفق مع ما تقرر من حرية العقيدة الدينية وعدم الجبر على البقاء في عقيدة لا يؤمن بها صاحبها.
ونجيب عن ذلك بالجوابين التاليين:
أولاً: أن من الواضح أن قتل المرتد لا يمكن أن يكون عقوبة على الفكر في ذاته وتركه للدين الإسلامي، بدليل أن غير المسلمين من اليهود والمسيحيين الأصليين قد كفل لهم الإسلام حرية العقيدة وحمايتها، من غير إكراه ولا تضييق. ويتعين حينئذ أن يكون هذا القتل عقوبة على الخيانة الكبرى والمكيدة الدينية التي قام بها المرتد حين أدعى الدخول في الإسلام زوراً وبهتاناً ثم أعلن خروجه منه قصداً للإساءة إليه، والطعن فيه، وانضم إلى صفوف أعدائه الماكرين الذين يحاربونه بجميع الوسائل، ومنها الدعاية أو ما اصطلح على تسميته في العصر الحاضر بالحرب النفسية والمعنوية.
وهذا هو ما يقرره القرآن الكريم ويحكيه عن اليهود في صدر الدعوة الإسلامية، إذ كانوا يتخذون من إعلان الدخول في الإسلام، والانضمام ـ نفاقاً ـ إلى صفوفه، ثم المسارعة إلى الخروج منه، وسيلة للكيد والأضرار بالدعوة الإسلامية، ومحاولة لصد الناس عن الأيمان به، ولا خراج المسلمين منه ورجوعهم عنه.
يقول الله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل أن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (سورة آل عمران/ 72-73).
ويُروى في سبب النزول عن ابن عباس أن عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف، قال بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بها انزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن دينهم فأنزل الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون).
كما يُروى أن بعض أهل الكتاب قالوا: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار واكفروا آخره فأنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم فيها ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.
ثم يُروى أن أحبار قرى عربية ـ وكانوا اثني عشر ـ قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمداً صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا أنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمداً كاذب وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون فيقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟! بل أنهم فعلوا ذلك ولم يقفوا عند القول فقط، فقد روى ابن جرير أن بعض اليهود صلوا مع النبي صلاة الصبح وكفروا آخر النهار، مكراً منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منا الضلالة بعد أن كانوا قد اتبعوا1.
يقول الإمام محمد عبده: هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر، وهي أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه، فقال أبو سفيان: لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لو لا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه، بعد أن دخلوا فيه، وأطلعوا على بواطنه وخوافيه إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب فأن قيل: أن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ولا مكيدة كما كاد هؤلاء فماذا نقول في هؤلاء؟
والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له، لا لاعتقاده أنه حق في نفسه، فأذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فانه يترك ذلك الشيء.
ثم يقول: ويظهر لي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فأنها قد تخدع الضعفاء كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم، وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له.. وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي..."2.
نعم لا يكاد يوجد مسلم حقيقي يرتد عن دينه بعد أن ذاق حلاوته وسمو مبادئه، سواء أكان إسلامه أصلياً أم طارئاً، واستقراء الحوادث قديماً وحديثاً يؤيد ذلك.
ولا تثور قضايا الردة ـ في العصر الحاضر ـ إلا بالنسبة لصورة أخرى من صور الخداعوالتحايل، ففي بعض البلاد الإسلامية لوحظ أن بعض الناس يعلنون إسلامهم، لدنيا يصيبونها، أو امرأة يتزوجونها، أو يطلقونها، فيعلن أحدهم الإسلام حتى يطلق زوجته التي لا يسمح له دينه بطلاقها، أو رغبة في الزواج بامرأة لا يسمح لها دينها بالزواج منه مع البقاء على دينه، أو جريا وراء ميراث، حيث يعتبر اختلاف الدين مانعاً من موانعه بين المسلمين وغيرهم"3.
ويجري العمل قضاء على الاعتداء بهذا الإعلان، عملاً بالظاهر، والله وحده هو الذي يتولى السرائر، فقد روي أن أسامة ابن زيد قتل في ميدان الحرب رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله، فقال أسامة: لقد قالها تحت حر السيف، فقال الرسول: هلا شققت عن قلبه؟
وهؤلاء يتخذون الأديان هزواً ولعباً إذ يستمرون على ولائهم لدينهم الأصلي، ثم يعلنون العودة إليه بمجرد تحقيق أغراضهم وشهواتهم، أو يأسهم من تحققها، آمنين من العقاب على هذا العبث والتحايل4.
ثانياً: أن قتل المرتد حينئذ، وهو عدو للدولة الإسلامية التي تستند إلى الرابطة الدينية الإسلامية بين أهلها، وتظل بلوائها أهل الأديان الأخرى الأصليين ـ لا يتعارض مع الحرية الدينية، كما أن المعاقبة على جريمة الخيانة الوطنية لا يتعارض مع الحرية المكفولة للمواطنين بمقتضى الدساتير، ففي الحرية التزام بالنظام العام الذي تقوم عليه الدولة وعدم الخروج عليه5.
9- هذا ومن أظهر الأدلة على سماحة الإسلام وكفالته لحرية العقيدة، وعدم الإكراه والإعنات فيها، ما شرعه من إباحة الزواج بالمرأة الكتابية غير المسلمة، في قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم...)6.
وفي هذا أسمى أنواع السماحة والحرية الدينية، يقول الشيخ محمد عبده "أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية كانت أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهي منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته في العز والذل، والترحال والحل، بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه... لم يفرق الدين في حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية، ولم تخرج الزوجة الكتابية باختلافها في العقيدة مع زوجها من حكم قول الله تعالى: (ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها...) فلها حظها من المودة، ونصيبها من الرحمة، وهي كما هي، وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له، أين أنت من صلة المصاهرة التي تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة على ما عهد في طبيعة البشر وما أحلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوي القرابة لوالدتهم، أيغيب عنك ما يستحكم من ربط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذي لم يظهر عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه..."7.
هوامش:
---------------------------------
1 تفسير المنار ج3 ص333 وتفسير الجلالين ج1 ص152 والكشاف ج1 ص328. وأقول: أن الدعوة إلى ترك الإسلام سريعاً آخر النهار بعد الدخول فيه أوله، ترجع إلى الخوف من استقرار المتظاهرين بالدخول واستمرارهم مدة كافية بين المسلمين يشاهدون فيها ما هم عليه من الحق والخير، وما يترتب على ذلك من الاقتناع بالعقيدة الإسلامية والأيمان بها.
2 تفسير المنار ج3 ص333.
3 انظر في ذلك: الوسيط في أحكام التركات والمواريث للكاتب.
4 ولا علاج لذلك إلا في أحد أمرين: أولهما عدم الاعتداد بإسلام هؤلاء، ما دام يقترن به ما يدل على التحايل والولاء لدينهم الأول وهو ما يراه بعض الفقهاء، وما اتجه إليه مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد في الجمهورية العربية المتحدة إذ قرر في المادة 458 "أن الشخص تكون مسلماً إذا نطق بالشهادتين على وجه قاطع بالدخول في الإسلام غير محتمل للتحايل ولا مقترن بما ينافي الإسلام..." وحينئذ تنقطع حوادث الردة. ثانيهما: العمل برأي جمهور الفقهاء في عقوبة المرتد حماية للعقيدة الدينية الإسلامية من عبث العابثين، وحينئذ لن يعلن الدخول في الإسلام إلا صادق العقيدة والإيمان، وهيهات أن يرتد بعد أن يستظل بلواء الإسلام الذي يزيده إيماناً، وحينئذ تنقطع حوادث الردة أيضاً (وأنظر فلسفة العقوبة في الإسلام للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ص192 وما بعدها والجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ص681 وما بعدها).
5 ومن صور الارتداد الذي تضمن الخروج على الدولة الإسلامية ونظامها العام ما حدث من المرتدين في خلافة أبي بكر فقد ارتدوا بصورة جماعية، وأنكروا أحد أركان الإسلام، فامتنعوا عن أداء الزكاة وهي ضريبة الدولة وحق الفقراء ومورد المصالح العامة، واتبع بعضهم من أدعى النبوة كيداً ومحاولة لهدم الدولة الإسلامية، منتهزين فرصة انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى (وأنظر تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ج1 ص173).
6 الآية 5 من سورة المائدة. وإذا كان يحل زواج المسلم بالكتابية، فأنه لا يحل زواج الكتابي بالمسلمة، والفرق بين الحالتين أن الزوج المسلم، وهو راعي الأسرة ـ لا يتعرض لعقيدة زوجته وعباداتها، اتباعاً لأحكام دينه، وهو مع هذا يؤمن بعيسى وموسى نبيين قبل مجيء الإسلام، وليس الحال كذلك في الكتابي إذا تزوج المسلمة، فأن عقيدته تقوم على الكفر بالإسلام ونبيه، أليس في شريعته ما يدعوه إلى حماية العقيدة الدينية للمسلمة، بل أن الكتابي لا يسمح له دينه بالزواج بها، فإذا تزوجها كان خارجاً من دينه، ولا دين له، فيكون السماح له بزواج المسلمة سبباً في إيذائها وفتنتها في دينها.
7 الإسلام والنصرانية ص131.
--------------------------------
المصدر : مجلة (عالم الفكر) مجلد أول/1971.